الإسلام السياسي : المراجعة، بين الوضوح الشجاع والالتفاف الجبان - صلاح الوديع
المقال الذي نشرتـُه مؤخرا ردا على السيد بنكيران، بعد تهجمه على الأستاذ سيد محمود القمني، أثار العديد من ردود الفعل منها ما هو إيجابي وأشكر كل من عبروا عنه، ومنها ما يخالفني الرأي وهو ما دفعني إلى التفكير في المزيد من توضيح الأمر بعيدا عن كل بوليميك، إذ يهمني تقدم النقاش في المقام الأول.
يؤاخذ على مقالي في بعض الردود غير المباشرة كونه، هو وأمثاله، لا يقيم وزنا للمجهود المحمود الذي يقوم به السيد بنكيران مؤخرا لتوضيح توجهه "الحداثي"، وكأنما يتوجب علينا نحن المغاربة الباحثون عن نموذجنا من الحداثة أن نبتهج لكون زعيم حزب إسلامي قد أخذ ينحو نحو التخلص من ترسبات ماضيه الدعوي، بعد أن أصبح يدير دفة الحكم أو بعضَها أو أقلـَّها أو...الخ.
وتضيف الردود إياها أن هذا الموقف السلبي لا يمكن أن يكون إلا تبرُّما من كون السيد بنكيران أخذ يكسب مواقع لا يريد له 'الاستبداديون" أو أعوانهم أن يكسبها، لكونهم يفقدون بذلك تأثيرهم وقدرتهم التناورية في الدفاع عن الاستبداد... لا أقل. هذا بتلخيص شديد.
ودون الخوض في الرد على نظرية المؤامرة التي يبدو أن لها من القدرة على التناسل أكثر مما للإفراد، فإننا نريد الخوض بدءا في نقطة منهجية جوهرية قد لا يعيرها السياسوي أية أهمية أكان هذا السياسوي محتكرا لرضا الإرادة الإلهية أم مختبئا في تلابيب الوطنية أم لابـِدا ً تحت المظلة الملكية (لبد يلبد إذا لزق بالشيء)...
بادئ ذي بدء، نود التأكيد على أمر منهجي أساسي قوامه ما يلي: القيام بالدعوة لمشروع مجتمعي والترويج لما يسوغه ويؤسسه نعتبره مسؤولية كبرى لا يمكن التنصل منها ومن تبعاتها السلبية بسهولة وخفة. فحينما يقوم المرء بالدعوة لمشروع مجتمعي ما، فإن وقوفـَه على أخطائه أو أوهامه أو إيهاماته يجب ألا يتم بخجل وعلى استحياء كمن يتنكر لعشق سري أو يتنصل من لذة عابرة. إنه مسؤولية أخلاقية فوق كونها سياسية، كما هي مسؤولية الشأن العام تماما بتمام. إذ الحزب في تصورنا هو المنار المفروض فيه أن يهدي إلى المشروع المجتمعي وكل خطأ في التصور والاقتراح أو التوجيه يتطلب تحليلا وإقرارا علنيا بذلك، ونقد ذاتيا جريئا إذا كانت العبارة لا زالت ذات معنى...
وحتى لا يقال أننا نتقدم بمثل هذه الأفكار لأنها لا تلزمنا في شيء، فإننا نحيل على مواقف نقدية للذات عبرنا عنها مبكرا سنة 2007 وقبلها خاصة خلال ندوة "اليسار، الإسلاميون، حقوق الإنسان والديمقراطية" التي شارك فيها المرحوم العربي المساري والسادة أحمد عصيد وعبد العزيز الرباح وعمر احرشان وآخرون حين قلت بالحرف: " لقد اعتبر اليسار الجديد (...) أن الديمقراطية وحقوق الإنسان موضوعة مرفوضة في الأصل لأنها تعبير عن خدعة "بورجوازية"، (...) وقد تطورت أغلب فصائل هذا اليسار إلى تبني موقف مغاير. غير أن ما طبع هذا التبني، على أهمية حركيته (...)، هو الصمت عن مواقف التأسيس، وعدم الإقدام على التصحيح والنقد الذاتي. (...) إنه غير مبرر وغير مقبول أخلاقيا، لأنه يحجم عن التواضح الإيديولوجي." (انظر كتاب المعطي منجب "مواجهات بين الإسلاميين والعلمانيين بالمغرب").
لقد كنت في ذلك أقوم بنقد ذاتي وبنقد أسرة اليسار الجديد وهي التي قدمت التضحيات الجلى، وكانت الحاضنة الأولى لالتزامي السياسي.
ثم أحيل القارئ على النقد الذاتي الذي كنت بادرت بنشره بكل حرية ومسؤولية، ودون إيعاز من أحد، بعد عرضه على هيئات الحزب الذي كنت انتمي إليه بل كنت من مؤسسيه، حزب الأصالة والمعاصرة، وقد كنت ناطقه الرسمي، يوم بدا لي أن المشروع لم يعد يستجيب للأفق الذي تصورته.
++++++++++++++
وحتى لا ننجذب إلى نقاشات هامشية، فإن موضوعنا ليس هو تحديد الحيز الذي يجب أن يكون للدين الإسلامي في حياتنا، وهل يكون أو لا يكون لنا بعد روحي فيها. هذا نقاش مختلق. فالبعد الروحي ضروري، كان قبل الأديان نفسها وسيبقى، بل إنه عنصر مكون في الوجود البشري فيما نرى، وهو ما نعرِّفه بحق كل فرد في التعامل في المستوى الذي يرتضيه لنفسه، مع الوجود وألغازه وأسراره المستمرة وربما الأزلية/الأبدية.
فيم يتجسد المشكل بالنسبة لمكانة الدين في حياتنا العامة؟
في بلادنا – وفي البلدان التي تدين أغلبية سكانها بالإسلام – تـُشَكل الفطرة الشعبية التي تستحضر الدين في مخيالها كتركيز مطلق ٍ للقيم النبيلة، تشكل أساس تدينها وهي في هذا على صواب. وليس هذا مشكلا، بل هو من صميم الحياة.
المشكل يكمن في "استثمار" الفطرة إياها من لدن مجموعات سياسية كأساس تبنى عليه مشاريعها من أجل الكسب السياسي، واستدراج المواطن المتماهي مع الفطرة الدينية، للاندماج في سياقات صراعات سياسية تؤدي إلى إذكاء نزعات قاتلة ودفع المواطن للمساهمة فيها كحطب لها، نزاعات تعوّض الصراع من أجل المصالح المشروعة بالصراعات المقيتة ذات الطابع الطائفي والعقائدي. والأمثلة أكثر من أن تعد...
المشكل اليوم يوجد لدى من اختاروا استثمار الدين في السياسة في سياقات معروفة. المشكل يتمثل في حصول شعور لديهم، تتفاوت درجات وضوحه ونزاهته، بالخطورة المحدقة لما بثـّوه داخل المجتمع عقودا من الزمن ومحاولتهم الرجوع إلى منطقة أمان، خاصة وأن نماذج حية مشابهة تظهر كيف تؤدي نفس الاختيارات إلى نتائج كارثية بل إلى آثام لا تغتفر، وكيف أننا لسنا في منأى منها...لولا حكمة المغاربة...
المشكل يكمن في محاولة تقديم هذه المراجعة الخجولة المحتشمة على أنها هدية من صاحبها، أو أعطية ٌ من علياء حكمته. على اعتبار أنه لولاها لحلت بنا كوارث غيرنا. بل علينا تقدير هذا "الفتح" الجديد حق قدره، كما قدرنا "الفتوحات" السابقة. إن هذا السلوك يذكرني بما يُطلب عادة من جيران "الفتوّات" (انظر رائعة "أولاد حارتنا" لنجيب محفوظ). وملخص "الحكمة" أن الفتوّة (أو ''صْحِيحْ الدّرْب") بعد أن يرسي سطوته في الحي الذي يقطنه، ويستتب له الأمر، يطالع سكان الحي بأنه، وبقرار واستعداد منه وبكل أريحية، سيتخلى عن عربدته وسطوته، مقابل استمرار قبولهم به في المقام الذي بلغه. والحال، يا عادلين، أنه يجب أن يقدّم الحساب على عربدته، لا أن يفرض شروطا على الضحايا.
ولنحاول الآن النفاذ إلى صلب الموضوع.
إن الإستراتيجية التي اتخذتها الفرق السياسية التي استندت للدين في اعتماد مشروعها المجتمعي، قد صعَّبت كثيرا مهمة بناء الحداثة المغربية حين اختارت منافسة الملكية على المشروعية الدينية من أجل اقتناص جزء يكبر أو يصغر من السلطة والوجاهة المعنوية والمادية. واستثمرت في ذلك بلا أدنى تورُّع المقدسَ المشترك، بل وما هو أشدُّ حساسية ً وخطورة: العاطفة َ الدينية الفطرية للمغاربة التي تردُّ الفعل بعنف حين يتم تقديم الأمر – تغذيه الحملات الديماغوجية - على أنه دفاع من طرفها عن دين ٍ وهويةٍ مستهدَفـَين، وفي هذا انتهازية لا غبار عليها.
إنها لم تساعد على توضيح، بل طمست الفروق في المجتمع كما هي: ظالم/مظلوم، مستفيد/مهمش، مستغِل/مستغَل، بل وضعت في المقام الأول التقابلات القاتلة: مسلم حقيقي/مسلم مزور، مسلم/يهودي، مسلم/كافر أو مرتد،...إلخ
إنها بذلك وبمستويات متفاوتة، قد ساهمت في زرع بذور التفرقة على أساس ديني، مما لا نزال نعيش نتائجه إلى اليوم. وعلى الذين يبحثون عن جذور الداعشية ألا يهملوا هذه الفرضية. لقد ساهمت هذه الفرق بدرجات متفاوتة في زرع ما نعيشه من تعصب وتشدد ونزوع إلى تبرير جرائم داعش حتى، باسم المعتقد الإسلامي المتشدد كما نهلوا منه لدى هذه الفرقة أو تلك.
وللحقيقة يجب الإقرار بأن اليسار لم يسهل مهمة التعامل مع المسألة الدينية في إطار معالجة ديمقراطية حداثية. فهو حاول تحييد الموضوع مع التركيز على نقد الاستعمال الوظيفي للدين خلال السنوات السوداء من طرف الدولة المستبدة. والحال أن الاجتهاد كان يتطلب الدفع نحو ترسيخ وتوسيع مجالات الفصل الضمني القائم بالمغرب بين الديني والسياسي في الدولة الناشئة، مع ترسيخ الوجه السمح للموروث الإسلامي المغربي، والاستثمار الايجابي لإمارة المسلمين في جعل دورها ينصب أساسا في هذا المجال، إضافة إلى دورها في وحدة المغرب، على ضمان حرية الضمير وممارسة الشعائر الدينية للمغاربة على اختلاف شعائرهم واختياراتهم.
++++++++++++
إننا نكتشف اليوم وأمام البشاعات التي لا تعد ولا تحصى والتي ترتكب باسم الإسلام من طرف أي فرقة تصيح "الله أكبر" قبل غيرها أو أكثر من غيرها على امتداد الرقعة العربية الإسلامية، نكتشف الخطورة الكبرى لإذكاء النعرات الدينية والمتمثل في جعل الفـَرْق بين الناس قائما بين من هم قريبون من الله لأنهم اختاروا جماعة سياسية بعينها، ومن هم بعيدون عنه لأنهم أعرضوا عنها، ونكتشف في نهاية التحليل أن هذا الاختيار من أساسه شيء منكرٌ بلا مداورة.

كأني بالبعض يؤاخذنا ولسان حاله يقول: "انظروا إلى الرجل، إنه يحاول الاقتراب من الحكمة وأنتم تصدونه، يا لكم من جاحدين، يا لكم من مزهقين للفرص التاريخية..."
نقول لهؤلاء، انظروا إلى الكوارث التي نشأت عن دعوات هؤلاء "التائبين" المتسترين قبل الجواب علينا وقدروا حجم وأثر إذكاء النعرات الدينية على امتداد الرقعة العربية الإسلامية وأثرها على مصائر الشعوب حاضرا، ومستقبلا لا قدر الله...
غريب كيف يحاول البعض قلب السلة على الآخرين ومسح السماء بليقة، كما يقول المغاربة.
لكن وحتى إذا كان الأفراد مغفلين، فالتاريخ لا تنطلي عليه حيل المخادعين...
الإسلام السياسي : المراجعة، بين الوضوح الشجاع والالتفاف الجبان - صلاح الوديع
تعليقات
إرسال تعليق