القائمة الرئيسية

الصفحات

حديث سحر الرسول صحيح السند و لا غبار عليه - الشيخ المغربي الشاب فؤاد الشمالي

         الحمد لله رب العالمين و الصلاة و السلام على خير المرسلين و رضي الله على الخلفاء الراشدين و سائر الصحابة المنتجبين و رحم الله ساداتنا العلماء و ورثة الأنبياء و من تبعهم بإحسان إلى يوم الدين .

 أما بعد فإن أصدق الحديث كلام الله تعالى و خير الهدي هدي محمد صلى الله عليه و سلم و إن شر الأمور محدثاتها و كل محدثة بدعة و كل بدعة ضلالة و كل ضلالة في النار
   ثم أما بعد فإنني أقدم لإخواني هذا المقال في إطار الرد على جملة من الشبه و الأكاذيب التي طرحها الدكتور محمد بن الأزرق الأنجري حول قصة سحر النبي صلى الله عليه و سلم . و التي حاول من خلالها - عابثا - إيهام الناس بأن رسول الله عليه الصلاة و السلام لم يتعرض للسحر و أن تعرضه للسحر أمر مناقض للقرآن و السنة و العقل و المنطق ، و أن إمكانية سحره تستلزم أنه ليس نبيا أصلا و أنه يُحتمل أن يتطرق الخطأ و التغيير و التحريف إلى دين الله عز و جل بسبب ذهاب عقله الشريف المتأثر بذلك السحر ، و أن القرآن يصرح بأن الأنبياء لا يسحرون في ما من موطن  ، و ما شاكل ذلك من الشبه الضعيفة الواهية التي يدندن حولها المشككون في صحة البخاري و مسلم رحمهما الله تعالى  منذ القدم .
 وإن الأستاذ محمدا بن الأزرق الأنجري قد بذل جهدا كبيرا في تشكيك الناس في صحة الحديث الذي يروي قصة سحر النبي عليه الصلاة و السلام معتمدا على التدليس و الإيهام و التطاول على العلماء الكبار بالإضافة إلى أخطاءه العلمية القادحة في أطروحته و لا سيما في تحليلاته الخاطئة و افتراضاته الغير المنطقية في إطار شرحه للتناقض بين القصة و القرآن و العقل  ( و هذا ما سأوضحه للقراء الكرام إن شاء الله تعالى في عدد من المقالات )  . فمن تدليسه ادعاءه بأن المسلمين يقدسون البخاري و مسلم و يقولون بأنهما معصومان من الخطأ ، و هذه كذبة لا تحتاج مني لرد لأن كل المسلمين متفقون على أن العصمة من الله لرسوله الكريم عليه الصلاة و السلام و لا يشاركه فيها أحد ، و لم يقل أحد من علماء الدنيا من أهل السنة و الجماعة أن غير رسول الله صلى الله عليه و سلم معصوم . ثم إننا لو كنا نقدس البخاري و مسلم كرجلين لقلنا بصحة كل كتبهما و كل نقولاتهما ، بل كل علماء أهل السنة و الجماعة يقولون بأن صحيح البخاري و صحيح مسلم هما أصح كتابين بعد كتاب الله تعالى و لم يقولوا ذلك عن غيرها من كتبهما و أحاديثهما . فالإمام محمد بن إسماعيل البخاري   - على سبيل المثال - يحفظ أكثر من ستمائة ألف حديث  كما نقل عنه ذلك الإمام خير الدين الزركلي في كتابه الأعلام (طبعة دار العلم للملايين:ج6 ص34) و اختار منها لصحيحه فقط سبعة آلاف و خمسمائة و ثلاثة و تسعين حديثا - ( 7593 حديثا ) حسب إحصاء المحقق المعاصر محمد فؤاد عبد الباقي-  ، أي ما يعادل واحدا في المئة من جملة محفوظاته رحمه الله تعالى بعد اجتهاد و تمحيص و غربلة دامت لسنوات  . فلا يدلسن أخونا محمد بن الأزرق على الناس بأن المتعصبين للبخاري رحمه الله يأخذون كل أحاديثه بالتصديق الأعمى دون تثبت و تبين من صحة تلك الأحاديث و أنهم يدافعون عن البخاري و مسلم حتى لو كان كلامهما باطلا . ثم إن علماء الأمة قد نقحوا تلك الأحاديث حديثا حديثا و ناقشوها قبلنا راويا راويا و حرفا حرفا فتبين لهم الحق بأن معظم ما في صحيح البخاري و مسلم صحيح . فعظمة البخاري و مسلم استُمدت من اجتهادهما و ليس العكس ، فنحن نعظم ذلك المجهود الذي أسفر عن أقوى كتابين في الحديث و لا نعظم الكتابين فقط لأنهما من تأليف البخاري و مسلم رحمهما الله . و من إيهام الأنجري للناس أنه زعم بأن الأحاديث المروية عن عائشة رضي الله عنها في قصة سحره صلى الله عليه و سلم فيها اختلاف و اضطراب يستحيل معه أن تكون القصة صحيحة ، و هذا الاضطراب ليس إلا في عقله هداه الله ، فالجمع بين كل تلك الأحاديث ممكن و سهل و يسير على أصغر طالب علم حديث بله على خريج مؤسسة عريقة كدار الحديث الحسنية .
  و إن الأخ محمدا بن الأزرق الأنجري قد تناول هذا الحديث بالنقض - و ليس بالنقد - من جهات متعددة كلها أكاذيب و أوهام و شبهات ضعيفة من السهل كشفها و لكنني سأنهج نهجا علميا في الرد عليها ، فلن أرد على كل مسألة طرحها إلا حين يحين قطافها و بالله التوفيق .
    و في هذا المقال سأوضح بعض الشبهات التي طرحها محمد بن الأزرق الأنجري حول سند الحديث الذي رواه البخاري و مسلم و الذي فيه قصة سحر النبي صلى الله عليه و سلم فقط ، دون أن أتطرق للشبهات الواهية التي طرحها حول متنه إن شاء الله تعالى .

 الحديث متن و سند :

إن كل خبر يصلنا عن رسول الله صلى الله عليه و سلم إنما يصلنا عن طريق سلسلة من الرواة ، فإن كانوا جميعا عدولا و ثقاتا و التقى بعضهم ببعض فإن سند هذا الحديث يكون صحيحا ، و بعد أن يثبت عند المحدث أن السلسلة تتضمن الثقات و العدول ينتقل إلى مقارنة المتن أو الخبر مع القرآن الكريم و سائر متون السنة الشريفة ليخرج بعد ذلك برأي نهائي حول صحة او ضعف الحديث الشريف . فالحديث الذي لا يصح سنده لا يناقش متنه أصلا ، فلا ينبغي الخوض في مناقشة حديث لا يصح سنده أصلا إلا بعد نفض الغبار عن روايته و أسانيده و هذا ما سنقوم به في هذا المقال إن شاء الله تعالى .

حديث سحر النبي عليه السلام متنا و سندا :

 و قبل مناقشة سند الحديث الذي يروي قصة سحر النبي عليه الصلاة و السلام فإنني أضعه كاملا كما أورده البخاري في صحيحه رحمه الله تعالى لنجعله مادة النقاش و ليسهل على القاريء متابعة الشرح و رد الشبهات حوله بإذن الله .
قال البخاري في صحيحه في كتاب الطب في باب السحر  :

    حَدَّثَنَا عُبَيْدُ بْنُ إِسْمَاعِيلَ حَدَّثَنَا أَبُو أُسَامَةَ عَنْ هِشَامٍ عَنْ أَبِيهِ عَنْ عَائِشَةَ قَالَتْ سُحِرَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ حَتَّى إِنَّهُ لَيُخَيَّلُ إِلَيْهِ أَنَّهُ يَفْعَلُ الشَّيْءَ وَمَا فَعَلَهُ حَتَّى إِذَا كَانَ ذَاتَ يَوْمٍ وَهُوَ عِنْدِي دَعَا اللَّهَ وَدَعَاهُ ثُمَّ قَالَ أَشَعَرْتِ يَا عَائِشَةُ أَنَّ اللَّهَ قَدْ أَفْتَانِي فِيمَا اسْتَفْتَيْتُهُ فِيهِ قُلْتُ وَمَا ذَاكَ يَا رَسُولَ اللَّهِ قَالَ جَاءَنِي رَجُلَانِ فَجَلَسَ أَحَدُهُمَا عِنْدَ رَأْسِي وَالْآخَرُ عِنْدَ رِجْلَيَّ ثُمَّ قَالَ أَحَدُهُمَا لِصَاحِبِهِ مَا وَجَعُ الرَّجُلِ قَالَ مَطْبُوبٌ قَالَ وَمَنْ طَبَّهُ قَالَ لَبِيدُ بْنُ الْأَعْصَمِالْيَهُودِيُّ مِنْ بَنِي زُرَيْقٍ قَالَ فِيمَا ذَا قَالَ فِي مُشْطٍ وَمُشَاطَةٍ وَجُفِّ طَلْعَةٍ ذَكَرٍ قَالَ فَأَيْنَ هُوَ قَالَ فِي بِئْرِ ذِي أَرْوَانَ قَالَ فَذَهَبَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي أُنَاسٍ مِنْ أَصْحَابِهِ إِلَى الْبِئْرِ فَنَظَرَ إِلَيْهَا وَعَلَيْهَا نَخْلٌ ثُمَّ رَجَعَ إِلَى عَائِشَةَ فَقَالَ وَاللَّهِ لَكَأَنَّ مَاءَهَا نُقَاعَةُ الْحِنَّاءِ وَلَكَأَنَّ نَخْلَهَا رُءُوسُ الشَّيَاطِينِ قُلْتُ يَا رَسُولَ اللَّهِ أَفَأَخْرَجْتَهُ قَالَ لَا أَمَّا أَنَا فَقَدْ عَافَانِيَ اللَّهُ وَشَفَانِي وَخَشِيتُ أَنْ أُثَوِّرَ عَلَى النَّاسِ مِنْهُ شَرًّا وَأَمَرَ بِهَا فَدُفِنَتْ
 إذن هذا الحديث الصحيح رواه البخاري في صحيحه عن عبيد عن أبي أسامة عن هشام بن عروة عن أبيه عروة بن الزبير عن عائشة رضي الله عنها .
  عائشة رضي الله عنها هي أم المؤمنين و زوج رسول الله صلى الله عليه و سلم ، لا نشك في صدقها و لا يشكك المشككون في صدقها و لا في إمكانية ملاقاتها لرسول الله عليه الصلاة و السلام ، فهي زوجه و خليلته و من الطبيعي أن تروي عنه و هذا ليس إشكالا .
     و عروة بن الزبير الذي روى الحديث عن عائشة هو ابن أختها أسماء بنت أبي بكر ،  إذن الرجل ينقل الخبر عن خالته و بالتأكيد قد لقيها و قد سمع منها الكثير ، و حتى المشككون يقرون بأن عروة بن الزبير إمام ثقة صدوق و لا يشك في نقولاته عن أم المؤمنين رضي الله عنها و أرضاها . و هشام بن عروة نقل الخبر عن أبيه عروة . فلو تأملنا السند من هشام بن عروة إلى سيدنا رسول الله صلى الله عليه و سلم سنجد أن هشام بن عروة يحدث بأن أباه أخبره بأن خالته أخبرته بأن زوجها أخبرها ، و هذا من أقوى الأسانيد بالنظر إلى إمكانية الملاقاة و التحديث .
فأين الإشكال الذي يطرحه الأنجري و من هم على شاكلته في هذا الحديث من حيث السند ؟
يقولون أن هشام بن عروة مدلس و أصابه الخرف في كبره و اختلط عليه الأمر فأصبح يقول الأساطير و الخرافات . فهل هذا صحيح ؟ طبعا كل هذا كذب و تدليس

الأنجري يقول بأن هشام بن عروة أصابه الخرف في آخر حياته و هذا غير صحيح :

 المشككون في صحة حديث سحر النبي عليه الصلاة و السلام و منهم أخونا محمد بن الأزرق الأنجري يقولون بأن الحديث معلول سندا بهشام بن عروة . لماذا ؟ لأنه مدلس و اختلط عليه الأمر آخر حياته بل و أصبح يدخل الأساطير في حديث رسول الله  . و هذا كله كذب و افتراء على الإمام الحجة هشام بن عروة .
فقال محمد بن الأزرق الأنجري في مقاله الذي نشر على هسبريس :

( هشام بن عروة مدلس مختلط صاحب مناكير، فالسند ضعيف جدا:
كان هشام بن عروة إماما ثقة صادقا مرضيا حافظا متقنا، وفي آخر حياته أصبح سيئ الحفظ كثير الأوهام والنسيان، وصار مختلطا تختلط عليه محفوظاته ببعضها، فلا يميز بين ما هو حديث وما هو حكاية أو أسطورة، ويسند الأساطير والخرافات الشائعة في مجتمعه إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم أو أصحابه، وينسب أقوال التابعين أو الصحابة إلى النبي، ويسمع الخبر الذي قد يكون أكذوبة من بعض معاصريه ينسبه إلى النبي من غير إسناد، ثم ينسى هشام فيجعل للخبر المنقطع سندا نظيفا، غالبا ما يكون عن أبيه عروة عن خالته عائشة أم المؤمنين. )

فلاحظوا أن الأنجري -غفر الله له - قد قال أن هشام بن عروة هو علة هذا الحديث لأنه كان إماما ثقة و حافظا متقنا لكنه في آخر حياته أصبح سيء الحفظ  ، هذا صحيح لا ينكره أحد و هذا طبيعي يجري على كل الناس ، ففي الشيخوخة يقل الحفظ و يزيد النسيان . و قال بأنه صار مختلطا تختلط عليه محفوظاته ، و هذا غير صحيح أبدا . ثم استطرد في ذم الرجل الصالح قائلا كذبة عظيمة عنه توهم الناس بأنه حقا مخرف ( فلا يميز بين ما هو حديث وما هو حكاية أو أسطورة، ويسند الأساطير والخرافات الشائعة في مجتمعه إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم أو أصحابه ) و هذه كذبة عظيمة أراد بها الأنجري التوطئة لكذبة أعظم منها على هشام بن عروة رضي الله عنه و رحمه رحمة واسعة . و لنتأكد بأن هذه كذبة على الإمام الثقة هشام بن عروة نفتح كتاب سير أعلام النبلاء في توثيقه لهشام بن عروة . فنقرأ ما قال الإمام الذهبي بخصوص اتهام هشام بن عروة بأنه اختلط آخر حياته .

قال عنه في سير أعلام النبلاء  :

(      وقال عبد الرحمن بن خراش : بلغني أن مالكا نقم على هشام بن عروة حديثه لأهل العراق ، وكان لا يرضاه ، ثم قال : قدم الكوفة ثلاث مرات ، قَدْمة كان يقول فيها : حدثني أبي قال : سمعت عائشة . والثانية ، فكان يقول : أخبرني أبي عن عائشة . وقدم الثالثة فكان يقول : عن أبي عن عائشة ، يعني يرسل عن أبيه
     قلت : الرجل حجة مطلقا ، ولا عبرة بما قاله الحافظ أبو الحسن بن القطان من أنه هو وسهيل بن أبي صالح ، اختلطا وتغيرا ، فإن الحافظ قد يتغير حفظه إذا كبر ، وتنقص حدة ذهنه ، فليس هو في شيخوخته ، كهو في شبيبته . وما ثم أحد بمعصوم من السهو والنسيان ، وما هذا التغير بضار أصلا ، وإنما الذي يضر الاختلاط ، وهشام فلم يختلط قط ، هذا أمر مقطوع به ، وحديثه محتج به في " الموطأ " والصحاح ، " والسنن " فقول ابن القطان : " إنه اختلط " قول مردود ، مرذول . فأرني إماما من الكبار سلم من الخطأ والوهم . فهذا شعبة ، وهو في الذروة ، له أوهام ، وكذلك معمر ، والأوزاعي ، ومالك -رحمة الله عليهم . )

 فلاحظوا - بارك الله فيكم - أن الإمام الذهبي قد ساق كلام عبد الرحمن بن خراش كاملا ثم قال بأنه خطأ جسيم و لا يلتفت إليه ، فقال عن هشام بن عروة رحمه الله : ( الرجل حجة مطلقا ، ولا عبرة بما قاله الحافظ أبو الحسن بن القطان من أنه هو وسهيل بن أبي صالح ، اختلطا وتغيرا ) ثم وضح و زاد تأكيدا بأن هشاما لم يختلط قط و لم يقع له ما ادعاه أخونا الأنجري - هداه الله - حين قال : ( وهشام فلم يختلط قط ، هذا أمر مقطوع به ، وحديثه محتج به في " الموطأ " والصحاح ، " والسنن " فقول ابن القطان : " إنه اختلط " قول مردود ، مرذول . فأرني إماما من الكبار سلم من الخطأ والوهم . )
و في كتاب ميزان الاعتدال أيضا ينفي الإمام الذهبي هذه الكذبة التي أراد بها أهل الزيغ و الضلال تشكيك الناس في هشام عروة بن الزبير بسبب كبره في السن و ضعف ذاكرته أو تناقص حفظه و من بعده يشككون الناس في حديث رسول الله صلى الله عليه و سلم  فقال :
" هشام بن عروة ، أحد الأعلام ، حجة إمام ، لكن في الكبر تناقص حفظه ، ولم يختلط أبداً ، ولا عبرة بما قاله أبو الحسن بن القطان من أنه وسهيل بن أبى صالح اختلطا ، وتغيرا ، نعم الرجل تغير قليلا ولم يبق حفظه كهو في حال الشبيبة ، فنسى بعض محفوظه أو وهم ، فكان ماذا ! أهو معصوم من النسيان ! ولما قدم العراق في آخر عمره حدث بجملة كثيرة من العلم ، في غضون ذلك يسيرُ أحاديثَ لم يجودها ، ومثل هذا يقع لمالك ولشعبة ولوكيع ولكبار الثقات ، فدع عنك الخبط ، وذر خلط الأئمة الأثبات بالضعفاء والمخلطين ، فهشام شيخ الإسلام ، ولكن أحسن الله عزاءنا فيك يا ابن القطان ، وكذا قول عبد الرحمن بن خراش : كان مالك لا يرضاه ، نقم عليه حديثه لأهل العراق " انتهى .
" ميزان الاعتدال " (4/301-302) .
  فلاحظوا قوة دفاع الإمام الذهبي عن هشام بن عروة فقال بأنه قد تناقص حفظه حقا و هذا طبيعي يحدث لأي إنسان و لكنه لم يختلط أبدا أبدا أبدا . فهناك فرق بين تناقص الحفظ و بين الاختلاط ، و الذهبي فرق بينهما حيث قال : " لكن في الكبر تناقص حفظه ، ولم يختلط أبداً "
و نهى الإمام الذهبي عن الخلط بين الأئمة الثقات الأثبات و بين الضعفاء و وصف هذا الخلط بالخبط حيث قال : " فدع عنك الخبط ، وذر خلط الأئمة الأثبات بالضعفاء والمخلطين ، فهشام شيخ الإسلام " ، فالأنجري يخبط و يخلط و ليس الإمام هشام بن عروة هو من اختلط

    و في قولهم بأن هشام بن عروة قد اختلط في آخر حياته  كذبة من كذبات عبد الرحمن بن خراش ، و أما أنه قد نسج الخرافات و الأساطير و أدخلها في حديث رسول الله صلى الله عليه و سلم فكذبة من كذبات أخينا محمد بن الأزرق الأنجري - هداه الله -  .

الأنجري يستدل بطعن رافضي متشيع في إمام أهل السنة و الجماعة :

  و عند نظرنا في أقوال علماء الجرح و التعديل في عبد الرحمن بن خراش الذي اتهم سيدنا هشام بن عروة بالاختلاط و الإرسال في آخر حياته نجد أنه كان متشيعا و كان هو بنفسه يرسل الأحاديث و يصل المقطوعات و كان مدلسا حقيقيا دون نسيان و لا هرم،  و كان علمه وبالا و خاف بعض العلماء أن يكون كذابا فلم يُنتفع بعلمه مع سعة اطلاعه و حفظه .
فقال عنه الإمام الذهبي في سير الأعلام :

(     ابن خراش الحافظ ، الناقد ، البارع أبو محمد ، عبد الرحمن بن يوسف بن سعيد بن خراش ، المروزي ثم البغدادي
   قال أبو نعيم بن عدي : ما رأيت أحدا أحفظ من ابن خراش .
   وقال ابن عدي : قد ذكر بشيء من التشيع ، وأرجو أنه لا يتعمد الكذب .
  سمعت ابن عقدة يقول : كان ابن خراش عندنا إذا كتب شيئا في التشيع يقول : هذا لا ينفق إلا عندي وعندك . وسمعت عبدان يقول : حمل ابن خراش إلى بندار عندنا جزئين صنفهما في مثالب الشيخين ، فأجازه بألفي درهم ، بنى له بها حجرة ببغداد ليحدث فيها ، فمات حين فرغ منها .
   وقال أبو زرعة محمد بن يوسف الحافظ : خرج ابن خراش مثالب الشيخين ، وكان رافضيا .
    
    قال عبدان : وقد حدث بمراسيل وصلها ، ومواقيف رفعها .
   قلت : هذا معثر مخذول ، كان علمه وبالا ، وسعيه ضلالا ، نعوذ بالله من الشقاء . )

فلاحظوا بارك الله فيكم كم من مثلبة نقلها الحافظ الذهبي عن عبد الرحمن بن خراش الذي اتهم سيدنا هشام بن عروة بالاختلاط .
فابن عدي قال أنه ذُكر بالتشيع و أرجو أن لا يتعمد الكذب . و قال أبو زرعة أنه كان رافضيا و قال عبدان أنه كان مدلسا بل و أكثر من مدلس ، كان يصل المراسيل و يرفع الأحاديث الموقوفة عن الصحابة إلى الرسول عليه الصلاة و السلام
أما الإمام الذهبي فقال : "هذا مُعَثَر مخذول ، كان علمه وبالا ، وسعيه ضلالا ، نعوذ بالله من الشقاء"
 فكيف تستشهدون بشهادة رجل كان علمه وبالا و سعيه ضلالا و كان متشيعا رافضيا و كان متهما بالتدليس الحقيقي و الكذب على شيخ الإسلام هشام بن عروة . نعوذ بالله من الضالين و المضلين

    هشام بن عروة لم يتفرد برواية قصة السحر عن أبيه :

     و حتى لو سلمنا جدلا بأن هشام بن عروة قد اختلط في آخر حياته و أنه أصبح يدخل الأساطير و الخرافات في الحديث النبوي الشريف  - كما افترى عليه أخونا الأنجري هداه الله - فإنه ليس الوحيد الذي نقل هذه القصة عن أبيه عروة بن الزبير رضي الله عنهم أجمعين . و لنبين أن هشام بن عروة لم يتفرد أبدا برواية هذا الحديث عن أبيه نفتح صحيح البخاري في كتاب الطب في باب  هل يستخرج السحر .
قال البخاري رحمه الله :

( حَدَّثَنِي عَبْدُ اللَّهِ بْنُ مُحَمَّدٍ قَالَ سَمِعْتُ ابْنَ عُيَيْنَةَ يَقُولُ أَوَّلُ مَنْ حَدَّثَنَا بِهِ ابْنُ جُرَيْجٍ يَقُولُ حَدَّثَنِي آلُ عُرْوَةَ عَنْ عُرْوَةَ فَسَأَلْتُ هِشَامًا عَنْهُ فَحَدَّثَنَا عَنْأَبِيهِ عَنْ عَائِشَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا قَالَتْ كَانَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ سُحِرَ حَتَّى كَانَ يَرَى أَنَّهُ يَأْتِي النِّسَاءَ وَلَا يَأْتِيهِنَّ قَالَ سُفْيَانُ وَهَذَا أَشَدُّ مَا يَكُونُ مِنْ السِّحْرِ إِذَا كَانَ كَذَا فَقَالَ يَا عَائِشَةُ أَعَلِمْتِ أَنَّ اللَّهَ قَدْ أَفْتَانِي فِيمَا اسْتَفْتَيْتُهُ فِيهِ أَتَانِي رَجُلَانِ فَقَعَدَ أَحَدُهُمَا عِنْدَ رَأْسِي وَالْآخَرُ عِنْدَ رِجْلَيَّ فَقَالَ الَّذِي عِنْدَ رَأْسِي لِلْآخَرِ مَا بَالُ الرَّجُلِ قَالَ مَطْبُوبٌ قَالَ وَمَنْ طَبَّهُ قَالَ لَبِيدُ بْنُ أَعْصَمَ رَجُلٌ مِنْ بَنِي زُرَيْقٍ حَلِيفٌ لِيَهُودَ كَانَ مُنَافِقًا قَالَ وَفِيمَ قَالَ فِي مُشْطٍ وَمُشَاقَةٍ قَالَ وَأَيْنَ قَالَ فِي جُفِّ طَلْعَةٍ ذَكَرٍ تَحْتَ رَاعُوفَةٍ فِي بِئْرِ ذَرْوَانَ قَالَتْ فَأَتَى النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ الْبِئْرَ حَتَّى اسْتَخْرَجَهُ فَقَالَ هَذِهِ الْبِئْرُ الَّتِي أُرِيتُهَا وَكَأَنَّ مَاءَهَا نُقَاعَةُ الْحِنَّاءِ وَكَأَنَّ نَخْلَهَا رُءُوسُ الشَّيَاطِينِ قَالَ فَاسْتُخْرِجَ قَالَتْ فَقُلْتُ أَفَلَا أَيْ تَنَشَّرْتَ فَقَالَ أَمَّا اللَّهُ فَقَدْ شَفَانِي وَأَكْرَهُ أَنْ أُثِيرَ عَلَى أَحَدٍ مِنْ النَّاسِ شَرًّا .)
  إذا انتبهنا إلى هذه الرواية التي رواها البخاري في صحيحه فإننا نجد هذه العبارة في الحديث :  
( حَدَّثَنِي عَبْدُ اللَّهِ بْنُ مُحَمَّدٍ قَالَ سَمِعْتُ ابْنَ عُيَيْنَةَ يَقُولُ أَوَّلُ مَنْ حَدَّثَنَا بِهِ ابْنُ جُرَيْجٍ يَقُولُ حَدَّثَنِي آلُ عُرْوَةَ عَنْ عُرْوَةَ فَسَأَلْتُ هِشَامًا عَنْهُ فَحَدَّثَنَا عَنْ أَبِيهِ عَنْ عَائِشَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا ) ففي هذه الرواية يقول ابن جريج أن آل عروة - و هم أبناء عروة بن الزبير من غير هشام - قد حدثوه عن أبيهم  بقصة سحر النبي صلى الله عليه و سلم ثم بعدها لجأ إلى هشام بن عروة ليتثبت منه أكثر ، ففرق ابن جريج بين آل عروة و بين هشام ، بل و أكد ابن جريج أن هشام بن عروة كان أثبت من آل عروة بالنسبة له و أوثق في ضبط هذا الحديث ،  لذلك رجع إليه يسأله عن ما حكاه له آل عروة عن عروة رضي الله عنهما . فكيف يلجأ ابن جريج إلى رجل مختلط و كثير الأوهام و يروي الأساطير عن رسول الله عليه الصلاة و السلام - كما يفتري عليه الأنجري هداه الله - ليتثبت منه من قصة بلغته عن أبناء عروة عن أبيهم  . و كيف تكون أسطورة اختلقها هشام بن عروة و الرواية تؤكد أن غيره كان يقول ذلك قبله نقلا عن المصدر الموثوق الذي هو عروة بن الزبير .
  و حتى لو سلمنا جدلا مرة أخرى بأن ابن جريج لم يقل بأنه سمع حديث سحر النبي صلى الله عليه و سلم من آل عروة قبل أن يسأل عنه هشام بن عروة ، فإن حديث سحر النبي عليه الصلاة و السلام قد جاءنا من طريق آخر لا ذكر فيه لهشام بن عروة و لا حتى لعروة و لا حتى لعائشة رضي الله عنهم أجمعين . بل جاءنا من طريق الصحابي الجليل زيد بن أرقم رضي الله تعالى عنه .

ففي مسند الإمام أحمد في أول مسند الكوفيين في الحديث رقم  19267 قال الإمام أحمد رحمه الله :

حَدَّثَنَا أَبُو مُعَاوِيَةَ حَدَّثَنَا الْأَعْمَشُ عَنْ يَزِيدَ بْنِ حَيَّانَ عَنْ زَيْدِ بْنِ أَرْقَمَ قَالَ سَحَرَ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ رَجُلٌ مِنْ الْيَهُودِ قَالَ فَاشْتَكَى لِذَلِكَ أَيَّامًا قَالَ فَجَاءَهُ جِبْرِيلُ عَلَيْهِ السَّلَام فَقَالَ إِنَّ رَجُلًا مِنْ الْيَهُودِ سَحَرَكَ عَقَدَ لَكَ عُقَدًا عُقَدًا فِي بِئْرِ كَذَا وَكَذَا فَأَرْسَلَ إِلَيْهَا مَنْ يَجِيءُ بِهَا فَبَعَثَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَلِيًّا رَضِيَ اللَّهُ تَعَالَى عَنْهُ فَاسْتَخْرَجَهَا فَجَاءَ بِهَا فَحَلَّلَهَا قَالَ فَقَامَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ كَأَنَّمَا نُشِطَ مِنْ عِقَالٍ فَمَا ذَكَرَ لِذَلِكَ الْيَهُودِيِّ وَلَا رَآهُ فِي وَجْهِهِ قَطُّ حَتَّى مَاتَ

و علق الإمام العلامة أحمد محمد شاكر في تحقيقه على هذا الحديث بقوله حديث صحيح و أصله في الصحيحين

  و في رواية نقلها النسائي في سننه في كتاب تحريم الدم في باب سحرة أهل الكتاب و صححها الشيخ الألباني قال :

   أَخْبَرَنَا هَنَّادُ بْنُ السَّرِيِّ عَنْ أَبِي مُعَاوِيَةَ عَنْ الْأَعْمَشِ عَنْ ابْنِ حَيَّانَ يَعْنِي يَزِيدَ عَنْ زَيْدِ بْنِ أَرْقَمَ قَالَ سَحَرَ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ رَجُلٌ مِنْالْيَهُودِ فَاشْتَكَى لِذَلِكَ أَيَّامًا فَأَتَاهُ جِبْرِيلُ عَلَيْهِ السَّلَام فَقَالَ إِنَّ رَجُلًا مِنْ الْيَهُودِ سَحَرَكَ عَقَدَ لَكَ عُقَدًا فِي بِئْرِ كَذَا وَكَذَا فَأَرْسَلَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَاسْتَخْرَجُوهَا فَجِيءَ بِهَا فَقَامَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ كَأَنَّمَا نُشِطَ مِنْ عِقَالٍ فَمَا ذَكَرَ ذَلِكَ لِذَلِكَ الْيَهُودِيِّ وَلَا رَآهُ فِي وَجْهِهِ قَطُّ ( صححه الألباني )

و ابن أبي شيبة في مصنفه في كتاب الطب في باب ( فِي الرَّجُلِ يُسْحَرُ وَيُسَمُّ فَيُعَالَجُ ) قال :

حَدَّثَنَا أَبُو بَكْرٍ ، قَالَ : حَدَّثَنَا أَبُو مُعَاوِيَةَ ، عَنِ الأَعْمَشِ ، عَنْ يَزِيدَ بْنِ حِبَّانَ ، عَنْ زَيْدِ بْنِ أَرْقَمَ ، قَالَ : " سَحَرَ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ رَجُلٌ مِنَ الْيَهُودِ , فَاشْتَكَى النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لِذَلِكَ أَيَّامًا , فَأَتَاهُ جِبْرِيلُ ، فَقَالَ : إِنَّ رَجُلا كَذَا مِنَ الْيَهُودِ سَحَرَكَ , عَقَدَ لَكَ عُقَدًا , فَأَرْسَلَ إِلَيْهَا رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَلِيًّا , فَاسْتَخْرَجَهَا فَجَاءَ بِهَا , فَجَعَلَ كُلَّمَا حَلَّ عُقْدَةً وَجَدَ لِذَلِكَ خِفَّةً , فَقَامَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ كَأَنَّمَا نَشِطَ مِنْ عِقَالٍ , فَمَا ذَكَرَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ذَلِكَ الْيَهُودِيَّ وَلا رَآهُ فِي وَجْهِهِ قَطُّ

 و حتى في غير هذه الكتب الكريمة فإن حديث سحر النبي عليه الصلاة و السلام وصلنا بطرق أخرى صحيحة و لا ذكر فيها لا لهشام بن عروة و لا لعروة ، و إن كنا نقول بحقٍ أن هشام بن عروة لم يختلط أبدا كما يتوهم الأنجري و من هم على شاكلته و لم يدلس أبدا ، بل المدلس هو من يدعي أنه اختلط و دلس و أصبح يروي الأساطير في آخر حياته بغير حجة و دليل .
    و خلاصة هذا البحث أن حديث سحر النبي صلى الله عليه و سلم ليست فيه علة قادحة من حيث السند ، و أن هشام بن عروة الذي دندنوا حوله و أوهموا الناس بأنه اختلط آخر حياته لم يختلط آخر حياته أبدا و لم يدلس في حياته أبدا . و أنه حتى لو سلمنا لهم بأنه اختلط أو دلس فإن الحديث جاءنا من طرق أخرى عن الصحابي زيد بن أرقم  - على سبيل المثال و ليس الحصر- ، و أن البخاري و مسلم - و هما أصح مصنفين في علم الحديث - لم يرتكبا خطأ حينما صححا هذا الحديث .
  و هكذا فإن الضالين المضلين و الأفاكين الكذابين و المبتدعة المشككين في اجتهادات ساداتنا الأولين يستغلون جهل عامة الناس بدينهم و يلبسون عباءة المصحح و المحقق و المتحرر و المتنور و يحملون القلم الأحمر بدعوى تنقيح السنة من الأساطير و الخرافات و الكذب على رسول الله صلى الله عليه و سلم فيكذبون على العلماء و على الرواة للانتصار لضلالاتهم و انحرافاتهم .
 فوالله لسنا متعصبين لا للبخاري و لا لمسلم و لا ننقص من مكانة الرسول الكريم و لا نحارب رأي الناس بالعصبية و لا بالجهل ، بل نتتبع خيوط الحقيقة خيطا خيطا بلا ملل و لا كلل لنكتشف أن هذه الأمة أمة عظيمة و كريمة ، و من أسباب عظمتها أن الله اصطفى لها في كل زمان أفقه الناس و أتقاهم ليدافعوا عن الوحيين الشريفين من كل شر . و يصدق فيهم قول الله تعالى : ( كُنْتُمْ خَيْرَ أُمَّةٍ أُخْرِجَتْ لِلنَّاسِ تَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَتَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنْكَرِ وَتُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ )  .

كتبه أخوكم الطالب فؤاد الشمالي
https://www.facebook.com/foad.chamali

تعليقات

تعليق واحد
إرسال تعليق

إرسال تعليق

التنقل السريع